فصل: الباب الثامن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **


الباب الثامن

في علو الله تعالى‏:‏ وأدلة العلو

علو الله تعالى‏:‏ من صفاته الذاتية، وينقسم إلى قسمين‏:‏

علو ذات، وعلو صفات‏.‏

فأما علو الصفات فمعناه‏:‏ أنه ما من صفة كمال إلا ولله تعالى‏:‏ أعلاها وأكملها سواء كانت من صفات المجد والقهر، أم من صفات الجمال والقدر‏.‏

وأما علو الذات فمعناه‏:‏ أن الله بذاته فوق جميع خلقه، وقد دل على ذلك الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، والفطرة‏.‏

فأما الكتاب والسنة فإنهما مملوءان بما هو صريح، أو ظاهر في إثبات علو الله تعالى‏:‏ بذاته فوق خلقه وقد تنوعت دلالتهما على ذلك‏:‏

فتارة بذكر العلو، والفوقية، والاستواء على العرش، وكونه في السماء مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو العلي العظيم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏‏.‏ ‏{‏سبح اسم ربك الأعلى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 1‏]‏ ‏.‏ ‏{‏يخافون ربهم من فوقهم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 50‏]‏ ‏{‏الرحمن على العرش استوى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏‏.‏ ‏{‏ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏والعرش فوق ذلك والله فوق العرش‏)‏‏.‏ ‏(‏ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء‏)‏‏.‏

وتارة بصعود الأشياء، وعروجها، ورفعها إليه مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إليه يصعد الكلم الطيب‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 10‏]‏‏.‏ ‏{‏تعرج الملائكة والروح إليه‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 4‏]‏ ‏{‏بل رفعه الله إليه‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 158‏]‏‏.‏ وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏لا يصعد إلى الله إلا الطيب‏)‏ ‏(‏فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم‏)‏ ‏(‏يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل‏)‏‏.‏

وتارة بنزول الأشياء منه ونحو ذلك مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تنزيل من رب العالمين‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏80‏]‏‏.‏ ‏{‏قل نزله روح القدس من ربك‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 102‏]‏‏.‏ وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر‏)‏‏.‏

إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي تواترت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في علو الله تعالى‏:‏ على خلقه تواترًا يوجب علمًا ضروريًا بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قالها عن ربه وتلقتها أمته عنه‏.‏

وأما الإجماع‏:‏ فقد أجمع الصحابة، والتابعون لهم بإحسان، وأئمة أهل السنة على أن الله تعالى‏:‏ فوق سمواته على عرشه، وكلامهم مملوء بذلك نصًّا وظاهرًا قال الأوزاعي‏:‏ ‏(‏كنا والتابعون متوافرون نقول‏:‏ إن الله تعالى‏:‏ ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما جاءت به السنة من الصفات‏)‏‏.‏ قال الأوزاعي هذا بعد ظهور مذهب جهم النافي لصفات الله وعلوه ليعرف الناس أن مذهب السلف كان يخالف مذهب جهم‏.‏

ولم يقل أحد من السلف قط‏:‏ إن الله ليس في السماء، ولا أنه بذاته في كل مكان، ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ولا أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل، ولا منفصل، ولا أنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه، بل قد أشار إليه أعلم الخلق به في حجة الوداع يوم عرفة في ذلك المجمع العظيم حينما رفع إصبعه إلى السماء يقول‏:‏ ‏(‏اللهم اشهد‏)‏، يشهد ربه على إقرار أمته بإبلاغه الرسالة صلوات الله وسلامه عليه‏.‏

وأما العقل‏:‏ فإن كل عقل صريح يدل على وجوب علو الله بذاته فوق خلقه من وجهين‏:‏

الأول‏:‏ أن العلو صفة كمال، والله تعالى‏:‏ قد وجب له الكمال المطلق من جميع الوجوه فلزم ثبوت العلو له تبارك وتعالى‏:‏

الثاني‏:‏ أن العلو ضده السُفْل، والسفل صفة نقص، والله تعالى‏:‏ منزه عن جميع صفات النقص، فلزم تنزيهه عن السُفْل، وثبوت ضده له وهو العلو‏.‏

وأما الفطرة‏:‏ فإن الله تعالى‏:‏ فطر الخلق كلهم العرب، والعجم حتى البهائم على الإيمان به وبعلوه فما من عبد يتوجه إلى ربه بدعاء أو عبادة إلا وجد من نفسه ضرورة بطلب العلو وارتفاع قلبه إلى السماء لا يلتفت إلى غيره يمينًا، ولا شمالًا، ولا ينصرف عن مقتضى هذه الفطرة إلا من اجتالته الشياطين والأهواء‏.‏

وكان أبو المعالي الجويني يقول في مجلسه‏:‏ ‏(‏كان الله ولا شيء وهو الآن على ما كان عليه‏)‏ ‏(‏يعرض بإنكار استواء الله على عرشه‏)‏ فقال أبو جعفر الهمداني‏:‏ ‏"‏دعنا من ذكر العرش- أي لأنه ثبت بالسمع - وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا ما قال عارف قط‏:‏ يا الله‏.‏ إلا وجد من قلبه ضرورة بطلب العلو لا يلتفت يمنة، ولا يسرة فكيف ندفع هذه الضرورة من قلوبنا‏؟‏ ‏"‏‏.‏

فصرخ أبو المعالي ولطم رأسه وقال‏:‏ حيرني الهمداني، حيرني الهمداني‏.‏

فهذه الأدلة الخمسة كلها تطابقت على إثبات علو الله بذاته فوق خلقه‏.‏

فأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 84‏]‏‏.‏ فليس معناهما أن الله في الأرض كما أنه في السماء، ومن توهم هذا، أو نقله عن أحد من السلف فهو مخطئ في وهمه وكاذب في نقله‏.‏

وإنما معنى الآية الأولى‏:‏ أن الله مألوه في السموات وفي الأرض، كل من فيهما فإنه يتأله إليه ويعبده وقيل‏:‏معناها أن الله في السموات ثم ابتدأ فقال‏:‏ ‏{‏وفي الأرض يعلم سركم وجهركم‏}‏ ‏[‏الأنعامك 3‏]‏‏.‏ أي‏:‏ إن الله يعلم سركم وجهركم في الأرض، فليس علوه فوق السموات بمانع من علمه سركم وجهركم في الأرض‏.‏

وأما الآية الثانية فمعناها‏:‏ أن الله إله في السماء، وإله في الأرض، فألوهيته ثابتة فيهما، وإن كان هو في السماء، ونظير ذلك قول القائل‏:‏ فلان أمير في مكة، وأمير في المدينة‏.‏ أي‏:‏ إن إمارته ثابتة في البلدين، وإن كان هو في أحدهما وهذا تعبير صحيح لغة وعرفًا والله أعلم‏.‏